مشكلة الأسرة ـ في هذه العصور الحديثة ـ مشكلة خطيرة جداً، فقد فقدت نتيجة التغيرات الاجتماعية كثيراً من وظائفها التي كانت تقوم بها من ذي قبل، فأدى ذلك إلى تفكك عرى الأسرة، وانهيار الروابط التي كانت تربطها فيما قبل، يقول بعض المربين:
(والواقع أن من مخاطر المجتمع الحديثة الرئيسية أن الدور الطبيعي الذي كانت تقوم به الأسرة يتضاءل نتيجة لاستيلاء مؤسسات أخرى على كثير من مسؤولياتها ونخشى نتيجة التضاؤل أن تفقد الأسرة الأثر الفعّال، الذي هو من أهم قوى الاستقرار في المجتمع..). (التعليم: ص87)
وإن من أوهى الآراء القول بإهمال شؤون الأسرة، وترك الحديث والبحث عنها، لأنها لا تؤثر في تطورنا الاجتماعي، بل إنها مصدر من مصادر الاستغلال يجب تحطيمها كما أعلنته الماركسية في بداية تطبيقها زاعمة أن الرجل يستغل زوجته وأولاده فيتخذهم أدوات إنتاج. (بيان الحزب الشيوعي: ص69، طبع دار التقدم في موسكو)
وأصر إنجلز على ذلك فقال: (ولا تعود العائلة الفردية بتحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية عامة، الوحدة الاقتصادية للمجتمع، وتصبح إدارة المنزل الخاصة صناعة، وتصبح العناية بالأطفال، وتربيتهم قضية عامة، إذ يأخذ المجتمع على عاتقه تربية جميع الأطفال على حد سواء أكانوا ثمرة زواج أم لم يكونوا... وبهذا يختفي الخجل الذي يساور قلب الفتاة من جرّاء النتائج التي هي في زماننا أهم عامل اقتصادي خلقي يعوق الفتاة من استسلامها بحرية إلى الشخص الذي تحبه...). (أصل العائلة، ص81، ويراجع في معرفة المزيد من ذلك النظام الشيوعي، ص50)
وقد تراجعت الشيوعية عن كثير من مقرراتها لأنها اصطدمت بالواقع الذي يعيشه الناس في جميع مراحل تأريخهم من أن الأسرة نظام مستقر ثابت لا غنى للبشرية عنه ومن ثم اتجه المشروع الروسي إلى إعلاء شأن الأسرة والعمل على حماية الدولة لمصلحة الأم والطفل. ومنح المرأة إجازة قبل الولادة وبعدها بأجر كامل. (الدستور السوفيتي، المادة 122)
انعزال المرأة عن التربية
وكانت المرأة فيما قبل مستقرة في بيتها تعنى بتربية أولادها، والقيام بشؤون زوجها، وكانت تقوم مقام المعلم بين أبنائها مشتركة مع الرجل في ذلك.. أما في هذه الصورة فقد خرجت الزوجة لتقوم بأعمال تشابه أعمال الرجل، وأصبحت شؤون المنزل والقيام بمهامه عملاً ثانوياً بالنسبة لها. وأصبحت المرأة في كثير من الدول ترى أن إنجاب الأطفال يتعارض مع قيامها بتولي الوظائف العامة، الأمر الذي نجم منه تحديد النسل، وعدم التفكير في إنجاب الأطفال.
ومما لا شبهة فيه أن المرأة مسؤولة عن تهيئة الجو الاجتماعي والنفسي لنشأة الأطفال نشأة سليمة متكاملة، وقد نجم من تخيّلها عن هذه الوظيفة كثير من المضاعفات السيئة، وكان من أهمها انهيار الأسرة، فقد أصبح التقاء المرأة بزوجها وأطفالها التقاءً سريعاً، وأصبحت الأسرة في نظر الكثيرين أكثر شبهاً (باللوكاندة) من دون أن يوجد ذلك الرباط الاجتماعي والنفسي الذي يربط بين أفراد الأسرة، والذي يدعوهم دائماً إلى وضع مصلحة الأسرة فوق كل اعتبار. (الأسس الاجتماعية: ص72)
إن خروج المرأة من البيت قد أوجب حرمان الطفل من التمتع بحنان أمه، وذلك لمزاولتها العمل، وتركه لها أكثر الوقت، ومن الطبيعي أن تغذيته الاصطناعية وتعهد المربية لشؤونه لا يسد مسدّ حنان الأم وعطفها، فقد أثبتت التجارب العلمية أن الطفل لا ينمو، ولا يترعرع على حليب أمه، فحسب بل على عطفها وحنانها، وهذا الغذاء العاطفي لا يقل أهمية عن الغذاء الجسدي في تنمية شخصيته ومن هنا جاءت أفضلية التغذية الطبيعية من ثدي الأم على التغذية الاصطناعية ففي الأولى يتمتع الطفل بأمرين هما الغذاء والحنان وأما التغذية الاصطناعية، فإنها تخلو غالباً من شعور الطفل بحنان أمه. ومن هنا يحسن في الأطفال الذي يحرمون من التغذية الطبيعية أن تضمهم أمهاتهم إلى صدورهن حسب ما ينصح به أطباء الأطفال. (أسس الصحة النفسية: ص75)
وعلى أي حال فإن الطفل لا ينشأ نشأة سليمة إلا إذا أخذ حظه من الحب والحنان من أمه، وهو ـ في الغالب ـ قد حرم من هذه الجهة حين انعزال المرأة عن التربية.
وقد نعى على المرأة خروجها من بيتها جمع كبير من علماء التربية والاقتصاد والنفس، ونعرض لكلماتهم من دون أن نعلّق عليها.
يقول الفيلسوف الكبير برتراند رسل: (إن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة، وأظهر الاختبار أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة). (الإسلام والحضارة العربية، ج2، ص92)
ويقول العالم الاقتصادي جون سيمون: (النساء قد صرن الآن نسّاجات وطبّاعات، وقد استخدمتهن الحكومة في معاملها، وبهذا فقد اكتسبن بضعة دريهمات، ولكنهن في مقابل ذلك قد قوّضن دعائم أسرهن تقويضاً. نعم إن الرجل صار يستفيد من كسب امرأته، ولكن إزاء ذلك قلّ كسبه لمزاحمتها له في عمله.. (مجلة المجلات: ص17)
ويقول العالم الاجتماعي أوجست كونت، جواباً عن سؤال قدمته (هيركور) تسأله عن رأيه في المرأة فأجابها: (إن حالة المرأة في الهيئة الاجتماعية إذا جرت على النسق الذي تريدينه، كما هو حالة الرجل، فيكون أمرها قد انتهى فإنها تصير مستعبدة مملوكة). (دائرة معارف وجدي: ج8، ص605-606)
وتقول الكاتبة (أني رورد): (لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاءً من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة، والعفاف والطهارة... الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء. نعم إنه العار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، بالناس لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال سلامةً لشرفها..). (مجلة المنار: ج4، ص486)
يقول الأستاذ شفيق جبري: (إن المرأة في أمريكا أخذت تخرج من طبيعتها في مشاركتها للرجل في أعماله، إن المشاركة لا تلبث أن تتضعضع بها قواعد الحياة الاجتماعية، فكيف تستطيع المرأة أن تعمل في النهار، وأن تعنى بدارها وبأولادها في وقت واحد، فالمرأة الأمريكية قد اشتطت في هذا السبيل اشتطاطاً قد يؤدي في عاقبة الأمر إلى شيء من التنازع بينها وبين الرجل). (أرض السحر)
يقول سامويل سمايلس: (إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما تنشأ عنه من الثروة للبلاد، فإن نتيجته هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه يهاجم هيكل المنزل، ويقوّض أركان الأسرة، ويمزق الروابط الاجتماعية..). (نظرية العلاقة الجنسية في القرآن الكريم: ص94-95)
تقول السيدة أمينة السعيد: (إن الجهل ما زال منتشراً في النساء، وإن التشريعات العائلية بصورتها الراهنة أحق بالعلاج من دخول البرلمان.. والبيت في رأيي جنة، ما بعدها جنة، واستقرار المرأة فيه يعادل آلاف الحقوق السياسية..). (علمتني: ص24)
هذه بعض الآراء التي أدلى بها جمع من المفكرين ـ وهي من دون شك ـ تحمل طابعاً كبيراً من السمة العلمية، فإن خروج المرأة من بيتها، ودخولها في المعامل، ومزاحمتها للرجل في عمله واقتصاده مما أدى إلى عجزها عن القيام بوظيفتها في تربية النشء فإنها لم تعد إلى المنزل إلا وقد أضناها العمل واستنزفت الأتعاب جميع قواها، فكيف تتمكن من تربية أطفالها تربية سليمة، ومن الطبيعي أن ذلك يشكل خطراً جسيماً على النشء يعرّضه إلى الإصابة بكثير من الأمراض النفسية، وعدم الاستقامة في سلوكه، حسب ما دلّل عليه علماء التربية والنفس.
تضاؤل نسبة الزواج
والشي الخطير الذي يهدد كيان الأسرة في جميع أنحاء العالم، هو تضاؤل نسبة الزواج وانخفاضه إلى حد كبير، فإن الحضارة المادية الحديثة قد جعلت المرأة متاعاً رخيصاً، وسلعة مبتذلة، حتى امتنع الكثيرون من الشباب عن الزواج لأن ما ينشدونه من المتعة الجنسية قد صار بمتناول أيديهم فإذن لماذا يقدمون على الزواج ويعانون أعباءه وأثقاله.
يقول الشيخ بهي الخولي:
(يمتنع الشباب عن الزواج، لأن الزواج قيد يحجزه عن الخوض فيما شاء من اللذة المتجددة، فقد أقبلت عوامل التطور الحديث على كثير من المجتمعات الغربية بحريات واسعة في الفكر والقول، والعقيدة والسلوك الخاص وأنشأت لهم أهدافاً في المال، والمنفعة واللذة الحسية تعارض ما كان لهم من أهداف روحية، ومقاييس لمعاني العرض والعفة، وصار لكل منهم حريته الواسعة في حياته الخاصة يفعل منها ما يريد دون رقابة من قانون أو تحرج من عرف، بل يفعل ما يريد بتحريض من العرف وعطف من المجتمع.
وكان من ذلك أن تفجّرت الشهوات، وسادت عبادة الجنس، وراج جنون اللذة يستبد بألباب كثير من أفراد تلك المجتمعات، فرأوا في الزواج قيداً يحد من حرياتهم في ابتغاء ما يريدون، فنبذوا حياة الأسرة، وركنوا إلى المخادعة، كلما فترت رغبة أحدهم في خليلته أو فترت رغبتها فيه انصرف كل منهما عن صاحبه حيث يجد اللذة في رغبة جديدة وشوق أشد.
ولا شك أن ذلك يفضي إلى قلة النسل أي تناقص عدد السكان، وضعف الأمة في مقوماتها المادية ومقوماتها المعنوية، وقد ظهرت آثاره السيئة منذ عشرات السنين في بعض البيئات الأوربية، وأخذت في الازدياد والاتساع حتى شملت كثيراً من الدول.
وها نحن نرى كثيراً من علماء الاجتماع يدقون نواقيس الخطر، وينذرون أممهم ـ إذ تُهمل حياة الأسرة ـ سوء المصير، بانهيار الأخلاق وانحلال روابط المجتمع، وانقراض النسل، ولقد وفق المارشال (ربيتان) غداة احتلال الألمان لفرنسا في الحرب العالمية الأخيرة، إذ ينادي قومه إلى الفضيلة، ويعزو الهزيمة إلى هجر حياة الأسرة فكان مما قاله:
(زنوا خطاياكم فإنها ثقيلة في الميزان، إنكم نبذتم الفضيلة، وكل المبادئ الروحية، ولم تريدوا أطفالاً، فهجرتم حياة الأسرة، وانطلقتم وراء الشهوات).
إن الدولة ـ باسم الإسلام ـ مكلفة أن تعني أعظم العناية بإنشاء الأسر، وحياطتها، وتوفير ضمانات الاستقرار لها، وتحسّن ما تلده الظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية من آثار تمسها، نعم هي مسؤولة عن ذلك مسؤوليتها عن التموين والتعليم والدفاع، وما أشبه هذه الأغراض التي لا يمكن تركها للأفراد لأنها من صميم عمل الدولة..). (حقوق الإنسان، ص115-116
عقوق الأبناء
ومن مظاهر ما منيت به الأسرة من الانحلال ـ في هذه العصور ـ انفصال الأبناء عن آبائهم انفصالاً متميزاً في الرأي والعقيدة والاتجاه، فقد عملت التربية الحديثة بما تملك من طاقات مادية وحضارية على الزهد والتشكيك بقيم الآباء وعاداتهم وأفكارهم، وأصبح الأبناء ناقمين على مثل آبائهم وقيمهم، ونتج من ذلك نضال فكري وثوري على المثل القديمة، والنبذ لكل ما يعتنقه الآباء من القيم والتقاليد الاجتماعية، كما نتج صراع آخر عنيف وحاد فيما بينهم، فالآباء دوماً يشكون ما يعانونه من عقوق أبنائهم، وسوء آدابهم، ويحكون صوراً متنوعة من جفائهم، وعدم حشمتهم، ومقابلتهم بالقسوة والحرمان.
يقول المربي (جون ديوي):
(ومن البعث أن نندب ذهاب تلك الأيام القديمة السعيدة على مناقب أولادنا، والحشمة، والاحترام والطاعة الخلقية إذ النوح لا يعيد الذاهب، وبكاء ما فات يزيد الحسرات، فإن التغييرات الحادثة نتائج نواميس طبيعية، ولا يقابلها إلا تغيير كاف في التهذيب...).
وهو رأي وثيق للغاية فإن التغييرات الحادثة في نظام الأسرة وغيرها من الأنظمة التربوية والاجتماعية قد أوجبت تمرد الأبناء، وخروجهم من حدود الطاعة وهيهات أن تعود إلى الطبيعة الأولى من دون أن يكون هناك تهذيب للطباع، وتهذيب للغرائز، وغرس للنزعات الخيرة في أعماق النفوس.
التحلّل والميوعة
ومنيت كثير من الأسر الحديثة بألوان فظيعة من التحلل والانحراف. فقد أسرفت في التفنن بأنواع الملذات والمحرمات مما أدى إلى انهيار الأخلاق، وانحطاط السلوك. ومن الطبيعي أن الانسياق وراء اللهو يخلق جيلاً غير متماسك لا يعنى بالقيم الإنسانية ولا بالمثل الاجتماعية، فالطفل الذي يشاهد أبويه، وهما عاكفان على إدمان الخمر، وتبادل الرذائل فإنه حتماً يتأثر بذلك في سلوكه توجيهه.
يقول بعض الباحثين في الشؤون التربوية:
(لقد أصبحت الأسرة جواً مخزياً للتربية بصورة عامة لأن الآباء والأمهات في العصر الحديث قد تجاوزوا الحد المقرّر في السذاجة أو العصبية أو الضعف أو الشدة، وربما يعلّم أكثرهم بعض العيوب لأطفالهم.
أكثر الأطفال الذين يجدون صوراً مختلفة عن سوء الأخلاق والفساد، والمشاكسة والسكر في البيت والأسرة، والكثيرون منهم إن لم يجدوا مثل هذه القضايا في البيت فلابد وأنهم تعلّموها من أصدقائهم. فيمكن القول بلا مبالغة أن كثيراً من الآباء والأمهات في العصر الحديث يجهلون تربية أطفالهم مهما كانت الطبقة التي ينحدرون منها. والمدارس أيضاً لا تستطيع أن تؤدي واجبها لأن الأساتذة لا يختلف سلوكهم عن سلوك الأبوين كثيراً...).
إن انحراف الناشئة وفساد سلوكها يستند ـ على الأكثر ـ إلى ميوعة الأسرة وتحللها، ولا نعدو الصواب إذا قلنا إن كفة إصلاح الأسرة يفوق سائر العوامل التربوية الأخرى فهي المدرسة الأولى التي تؤثر أثراً مباشراً على السلوك والتوجيه